
فكرةُ الفنِّ كحالةٍ ثَوريِّةٍ لدى مدرسة فرانكفورت الفلسفية.
كان االعقلُ ، في لحظات تأسيسه المفهومي في الحقبة الأنواريِّة الأوروبية ؛ الزورقَ الأخيرَ لتحريرِ الإنسان من براثن الأسطورة وهيمنتها كما تصورته الوضعية الغربية ، فبعد أن كان يقفُ وقفةَ المرتابِ أمامَ كلِّ ما لا يُمكن اعتبارُهُ ذا معنىً حِسِّيٍ ، كالمجردات متمثلةً في القيم والحالةِ الجَماليِّة ، حتى تحول إلى أداة خاضعة مثل الطبيعة التي سعى للسيطرة عليها ، فالمعرفة ونتائجها من التكنولوجيا التي كانت يسخرها ذلك العقل للتسلط على الطبيعة وإخضاعها لمنافعه تجاوزت ذلك للتحكم والتسلط على الإنسان نفسه التي يُفترض بها أن تحرره ، وهذا ما اصطلح عليه بـ(العقلانية الأداتية) لدى فلاسفة وسيسولوجييْ مدرسة فرانكفورت الألمانية .
وُجِّهَ هذا التحليل من الرعيل الأول لمدرسة فرانكفورت للمجتمعات الغربية نقداً للمآلات التي تحولت إليها إبَّان الحرب العالمية الثانية مع صعود النُظُم الفاشية والنازية آنذاك ومع تشيئ الإنسان من الرأسمالية لاحقاً ، و في ذلك المناخ السياسي المحقون بالرعب والإرهاب حاول ( ثيودور أدورنو ) و ( ماركوز ) مواجهة هذا التحول في المجتمعات الغربية ليس بالنقد فقط ولكن بالتنظير لما يمكنه أن يكون خلاصاً آخر لدى الإنسان غير تلك العقلانية التي تحولت إلى أداة ومن ثم انزلقت عن المحجة، بعد أن حرمته من حريته الحقيقية و منحته حرية مزيفة آلية ميكانيكية تُشيِّئ الإنسان إلى بُعدٍ واحدٍ لا حاجة له إلا الإنتاج والإستهلاك وعلى هذا كانت المدرسة الفرانكفورتية كونها ترى وظيفة الفلسفة الرئيسية هي تغيير المجتمع سعت إلى إنقاذ هذا الإنسان المعاصر من ذلك المآل الميكانيكي المظلم .
وتغيير المجتمع يحتاج إلى يقظة القوى الهامشية كـ( البروليتاريا) ، تلك التي لم يتم احتضانها من قوى المجتمع القائم من حيثية الرفض والغضب المتفجر فيها إزاء هذا الوضع ولكن هذه الطبقة كما يرى (ماركوز) لم تعد باستطاعتها القيام بالتغيير لأن الأنظمة الحديثة استطاعت استيعابها واحتوائها ولكن ثيودور أدورنو لديه نظرة مختلفة. أدورونو خصص قسماً كبيراً من اشتغالاته الفلسفية قد تصل إلى النصف من أعماله في النظرية الجمالية ( الإستيطيقا ) ، لأن التغيير المتأمل لن يتحقق بواسطة القوى غير المندمجة مع النظام القائم أو النسق الراهن ، ولكنه يرى ذلك بين يدي الفن والجمال ، لأن الفن في جوهره " احتجاج " و "رفض" ، إنه يراه الملاذ للإنسان المعاصر من هيمنة التكنولوجيا حيث يخرج بالإنسان إلى أفق رحيب للإشتغال النقدي ، لأن البُعد الجمالي هو خلاص الإنسان من تلك العقلانية الأداتية .
إذن فالفن يحمل بُعداً سياسياً في ذاته يتمثل في احتجاجه و رفضه للواقع اللاإنساني الناشب من المؤسسة السياسية الساعية للسيطرة على الإنسان ، فالعمل الجمالي عملٌ ثوريٌ غايته تحرير الإنسان ، لكنه ليس ملتزماً كما سعت إليه الماركسية الأرثوذكسية في السابق من جعل الفن ليكون أصيلاً ، فإنه سيعيبر عن نضال الطبقة البروليتارية في تصورها عن العالم ، بمعنى آخر ، ليس الفن معبراً عن طبقة محددة الإطار في تصورها ولكن ينظر للإنسان المقهور، والقيود المعاصرة تعض عقله ويديه ، فذلك الإنسان في جوهره كائنٌ حرٌ و من خلال هذه النظرة فإنه لا يمكن للفن النابع من تلك الذات إلا أن يشتاق لتلك الحرية و يعمل على تحفيز ودفع الذات للتحليق إليها وتحقيقها ، وذلك وعلى النقيض من أفلاطون ونظرته التي حطت من شأن الفن ، من حيث أنه عملٌ يحاكي الواقع ليس إلا ، وليس له تناول الحقيقة لأنه خدعة ، تحجب الإنسان عن إدراك الواقع والحقيقة من جرَّاء تغيير ذلك وتشويهه .
من هنا ربما يظهر آثار هيغل على النظرية الجمالية ، فهو يرى الفن كالدين والفلسفة مجالاً لتجلي الحقيقة في اللحظة الأولى من الروح المطلقة أو الأفكار فهي - أي الحقيقة - تتمثل داخلياً وخارجياً في الفن وداخلياً في الدين وأخيراً و بالإطلاق تتجلى في الفلسفة على حد زعمه .
فالعدالة والخير والسعادة صورٌ يُسكنها الفن خيالَه حاكما ومتحكما على القمع والبؤس والقهر وغيرها من الصور القبيحة التي تسكن الواقع ومن هنا يكون هدف العمل الفني تحويل الواقع القاتم إلى صورة فنية ، لذا ليس الإلتزام الفئوي و السياسي للفنان سبيلاً للحكم عليه أو جادة صحيحة للوقوف على أعماله إذا ما كان هدف الفن هو تحويل الواقع إلى تلك الصورة الفنية ، ولا يمكن للفن أن يكون مجالاً للواقع والحقيقة إلا حينما يتعلق بالراهن الإجتماعي للإنسان لأن إطار الحقيقة في هذه المساقات إطار تاريخيٌ عالق بالمجتمع والإنسان .
Comments
Post a Comment