Skip to main content

وجود الحكومة أم وجود الفرد؟


دار بيني وبين الصديق الكاتب سلطان العامر نقاش حول أن الحكومة أفراد أو لا، ولا يمكن حل هذه المسألة إلا من حيث البحث في وجود الموضوعين ( الحكومة ) و ( الأفراد / الفرد) ولعل السؤال سينشعب إلى البحث عن من له الأصالة في الوجود الأفراد أو الحكومة ؟ وسأطبِّقُ رأي أحدِ الفلاسفة الشيعة في طبيعة وجود المجتمع ومن له الأصالة : المجتمع أو الفرد، حيث أن الحكومة مجتمع يدير مجمتع في النهاية .
وكما هو بديهي أن الحكومة ليست سوى مجموعة من الأفراد، فلولا وجود الأفراد لم تتحقق الحكومة ولكن كيف تتحق العلاقة بين الحكومة والأفراد وهنا تبرز نظريات تكاد تكون المسألة محصورة  بينها سنأتي عليها ثم نتعرض لها نقداً.
أ -
أن تركيب الحكومة من الأفراد تركيب اعتباري غير واقعي . فالمركب الواقعي تتأثر أجزاءه بعضها ببعض فيتولد من جراء ذلك التفاعل حادث جديد يمتاز ويختص عما تركب منه كالمركبات الكيميائية إذ تفقد الأجزاء المشكلَّة للمركب بعد الإمتزاج والإندماج خصائصها وآثارها لتنحل في الوجود المستحدث. كما في غاز الأوكسجين والهيدروجين ليتولد منهما الماء.
وهذه الميزة ليست تركيب للحكومة من الأفراد ، فأفراد الإنسان لا يندمجون مع بعض في ( كلٍّ) هو الحكومة. مما يعني أنْ ليس للحكومة وجود أصيلٌ عيني حقيقي، بل إن وجودها انتزاعي اعتباري، والأصيل هنا هو الفرد .
ب -
أن الحكومة وإن لم تكن مركبا حقيقاً على غرار المركبات الطبيعية إلا أنها مزاج من مركب صناعي هو أيضاً من قبيل المركبات الحقيقة . فهي نظير تركب السيارة مثلاً بأجزاءها المترابطة. أما الفرق بينها وبين المركب الطبيعي أن الأجزاء في المركب الطبيعي تفقد هويتها وتنحل في الكل ، وتبعاً لذلك تفقد الإستقلال في التأثير بالضرورة. ولكن المركبات الصناعية ليست كذلك فالأجزاء لا تفقد هويتها ولكن لا تستقل في التأثير فهي مترابطة بوجه خاص وآثارها أيضاً مترابطة، إلا أن ما يبرز من أثر المجموع ليس هو بعينه مجموع آثار الأجزاء كلاً على حدة.
فالسيارة مثلاً تنقل الأشخاص والأمتعة بسرعة معينة إلى مكان في حين أنّ هذا الأثر ليس أثراً لجزء خاص من السيارة ، ولا هو مجموع آثار الأجزاء لو كانت تؤثر مستقلاً دون ارتباط ، ففي تركيب السيارة نجد الإرتباط والمشاركة في التأثر بين الأجزاء على سبيل الجبر. ولكن هوية الأجزاء لا تنحل في الكل فليس للكل المركب وجود مستقل عن وجودات الأجزاء بل هو عبارة عن مجموع الأجزاء مضافاً إلى الربط المخصوص فيما بينها . وهكذا الحكومة فهي مركب من مجامع ومؤسسات اصلية وفرعية وهذه المجامع والأفراد كلها مرتبطة ببعض، والتغير الطارئ على كل مجمع يؤثر على سائر المجامع سواء كان ذلك المجمع ثقافياً أم دينياً أم اقتصادياً أم سياسياً أم قضائياً أم تربوياً. والحياة الإجتماعية ظاهرة قائمة بالمجتمع ككل من دون أن يفقد الأفراد في المجتمع أو في كلّ مجمع خصوص هويته الشخصية.
ج -
أنّ الحكومة مركب حقيقي من نوع المركبات الطبيعية إلا أنها تتركب من النفسيات والأفكار والعواطف والميول والإرادات دون الأجسام والظواهر فهي تركيب من الثقافات. كما أن العناصر المادية بالتفاعل مع بعض تُمهِّد الطريق لحدوث ظاهرة جديدة .
وفلسفياً أجزاء المادة بالفعل والإنفعال والكسر والإنكسار فيما بينها تستعد لقبول صورة جديدة ويحدث المكرب الجديد، والأجزاء تستمر في وجودها ولكن بصورة جديدة وماهية حادثة . كذلك أفراد الإنسان يدخلون في نطاق الحكومة وكل منهم يحمل مواهبه الفطرية وثروته المكتسبة من الطبيعة، ثم يندمجون مع بعض بنفوسهم ونفسياتهم وتتحقق نفس جديدة هي هذه الحكومة، فهذا التركيب تركيب طبيعي أيضاً ولكنه لا يشبه شيئاً من التركيبات الطبيعية الأخرى، وهو مركب طبيعي من جهة أن أجزاءه تؤثر وتتأثر كل من الآخر تأثراً عينيا خارجياً يوجب التغيير في الأجزاء وكسب هوية جديدة. ولكنه يتميز عن سائر المركبات الطبيعية في أن الكل والمركب هنا ليس موجوداً واقعياً له هويته الخاصة، بخلاف تلك المركبات الطبيعية فإن ذات الأجزاء تتبدل بعد التركيب من جراء التفاعل مع بعض ويتحقق المركب كأمر واقعي موحد. فالموجود حينئذ أمر واحد ذو أجزاء وقد تبدلت كثرة الأجزاء إلى وحدة الكل وأما تركب الحكومة من الأفراد فهو تركب واقعي لأن التفاعل الواقعي يتحقق بين الأفراد وهم أجزاء الحكومة فتتبدل الصورة الفردية إلى صورة جماعية، إلا أن كثرة الافراد لا تتبدل حقيقة إلى وحدة الكل فليس هنا واحد حقيقة تنحل في الكثرات، بالكل هنا موجود اعتباري انتزاعي هو مجموع الأفراد.

د -
 إن تركيب الحكومة تركيب حقيقي فوق التركيبات الطبيعية فإن الأجزاء في المركب الطبيعي لها ذوات وآثارحقيقة قبل التركيب، وإنما تمهد الطريق لتحقق ظاهرة جديدة بالتفاعل والتأثير والتأثر فيما بينها.
ولكن الإنسان قبل الإندراج في سلك المجتمع (الحكومة) ليست له هوية إنسانية، بل هو استعداد محض له قابلية التلبس بالروح الجماعية . والإنسان مع قطع النظر عن هذه الروح حيوان محض له استداد الإنسانية فهو إنسان بالقوة لا بالفعل. وإنما تبرز إنسانيته والشعور النفسي بالروح الإنسانية وفعلية الفكر الإنساني والعواطف البشرية، وكل مميزات الإنسان من أحساسيس وميول وأفكار وعقائد وعواطف إنما تبرز تحت إشعاع الروح الجماعية (الحكومية) وهي التي تملأ الإناء الفارغ البشري وتجع من الشخص شخصية إنسانية. والروح الجماعية (الحكومية) تلازم الإنسان ولا تفارقه أبداً، وتتجلى في ضمن الآثار الخلقية والدينية والعلمية والفلسفلية والأدبية ، فالتفاعل والتأثير والتأثر الروحي والثقافي بين الأفراد إنما يتم بسببها ولا تحقق قبلها. إذن فالوضع الإجتماعي مقدم على الخصائص الفردية بخلاف النظرية السابقة حيث كان للإنسان قبل الدخول في السلك الإجتماعي (الحكومي) شؤون نفسية، وكانت الحقائق الإجتماعية (الحكومية) تأتي في مرحلة متأخرة عن الخصائص النفسية للأفراد. وأما بناءاً على هذه النظرية فالوجود الإجتماعي (الحكومي) للإنسان والحقائق الإجتماعية شرط أساسي في تكون الشؤون النفسية للفرد وفي إمكان دراسة شؤونه النفسية.
 وبناءً على ما سلف تكون : 
 النظرية الأولى( أ )  خالصة إلى أصالة الفرد ، مما يعني أن ليس للحكومة وجود حقيقي ولا قانون ولا سنة ولامصير ولا دراسة مستقلة و بالنتيجة فالوجود الحقيقي إنما هو للفرد وهو موضوع الدراسة ومصير كل فرد مرتبط به وبشؤونه ومستقل عن مصير الآخرين .

وأما النظرية الثانية ( ب )  فأيضاً تتكئ على أصالة الفرد ، فلا تذعن بوجود حقيقي للمجتمع ككل ، ولا بتركيب واقعي بين الأفراد كمجتمع ، ولكنها تقول بوجود ارتباط أصيل واقعي بين الأفراد نظير الرابطة الفيزيائية بين أجزاء السيارة . وعليه فلا وجود مستقل للحكومة عن وجودات الأفراد وليس في الواقع الخارجي حقيقة سوى الأفراد إلا أنهم يرتبطون كما ترتبط أجزاء السيارة أو أي آلة على غرار الروابط بين العلل المكانيكية . فللأفراد مصير مشترك ، وللحكومة ( المجتمع ) هذه المجموعة المرتبطة الأجزاء تعريف وحدّ خاص بلحاظ وجود العلية والمعلولية الميكانيكية بين أجزائه.
وأما الثالثة (ج)  فتلتزم بأصالة الحكومة والفرد معاً، وهي من جهة ترفض انحلال وجود الأفراد ( أجزاء الحكومة ) في الكل وترفض وجوداً مستقلاً للحكومة على غرار المركبات الكيميائية ، وبذلك تلتزم بأصالة الفرد . ومن جهة أخرى تلتزم بوجود تركيب من قبيل التركيب الكيميائي بين الشؤون الروحية والفكرية و الإدارية والعاطفية للأفراد ، وتلتزم بأن الفرد يكتسب ماهية جديدة بالإندارج في المجتمع ( الحكومة ) هي الماهية الإجتماعية الحكومية  بالرغم من عدم وجود ماهية مستقلة للحكومة نفسها ، وبذلك فهي تلتزم بأصالة المجتمع ( الحكومة ). وبناءاً على هذه النظرية تحدث ظاهرة جديدة واقعية وحية من حيث التفاعل والتأثر والتأثير المتقابل بين الأجزاء ( الأفراد ) وبين الحكومة .
وأما النظرية الرابعة ( د ) خالصة لأصالة الحكومة ( المجتمع ) فليس في الخارج إلا هي وروحها وإدارتها وما روح الفرد وإدارته لها إلا مظهر لها فحسب .!
ولا تخرج آراء الماركسية والديلاكتيكية من النظريتين الأولى والثانية وقد عدم صمودهما .
والتحقيق يؤيد النظرية الثالثة القائلة باصالة الفرد والحكومة معاً إذ أثبتت وجود الحكومة كما أثبتت وجود الفرد وبينت وجه العلاقة بينهما بغض النظر عن الحكومة حديثة كانت أو قديمة فكلامنا عن طبيعية وجودها أما عن حداثة الحكومة أو قدمها فأمر نسبي كما أراه يعتمد على أي نظرية يعتمدها القائل بحداثة الحكومة ومن ثم نجري على تبيين محددات الحديثة من القديمة. 

Comments

Popular posts from this blog

عن تجربةِ الرجلِ المُعلِّقِ في الهواء ! لإبن سينا

         لا أظن أن أي تجربةٍ فلسفيةٍ ذهنيةٍ نالت من الشهرة ما نالته تجربة رينيه ديكارت المشهورة بالكوجيتو " أنا أفكر ، إذن أنا موجود ". و في هذه التجربة سعى ديكارت من خلالها أن يؤسس لمبدأ غير قابل للدحض أو الشك فيه حتى يكون منطلقاً للتعرف على الوجود من الذات التي لا سبيل إلى نكرانها مهما حذق السفسطائي في التشكيك . لكن هناك تجربةً ذهنية ليست بشهرة تجربة ديكارت وهي تجربة طرحها الشيخ الرئيس ابن سينا المعروفة ببرهان الرجل المعلق في الهواء أو الرجل الطائر.      يُروى أن ابن سينا كان جالساً في سدة درسه وطرح هذه المسألة لطلابه قائلا: لو أنك خلقتَ دفعةً واحدةً و جُردت من المحسوسات والمعقولات بحيث أعضائك وأطرافك لا سبيل إلى تماسها مع أجزائها وكنت معلقاً في الهواء وقد غفلت عن سائر أعضائك فلا تستطيع إبصارها آنذاك، فإنك بلا شكٍ لا تغفل عن ذاتك نفسها.        الإختلاف هنا بين تجربة ديكارت وتجربة ابن سينا يتركز بدايةً في الغاية من كل تجربة على حدى . فغاية ديكارت محصورة  في النظرية المع...

الكلام في مقولة ديكارت الفلسفية .

  الكلام في مقولة ديكارت الفلسفية وغيره . هاتان التعليقتان كانتا ثمرة نقاش ثري في تويتر بين الأستاذ شايع الوقيان  والأستاذ سليمان السلطان والأستاذ أمين الغافلي وكاتب هذه السطور . ولمطالعة الحوار فقد حفظت التغريدات على شكل storify في هذا الرابط .   http://storify.com/Sdqalnemer/story?utm_source=t.co&utm_content=storify-pingback&utm_campaign=&awesm=sfy.co_r9V4&utm_medium=sfy.co-twitter وقد آثرت أن تكون محفوظة في المدونة فقد نعود للإضافة عليها لاحقاً . ثلاث تعليقات نقدية على واقعية الطباطبائي فيما يتعلق بنقد الكوجيتو الديكارتي ستكون آراء المؤلف محمد حسين الطباطبائي ، والذي يشاركه مرتضى مطهري في التأليف من خلال التعليق ، باللون الأحمر. الكتاب المذكور هو " أصول الفلسفة والمنهج الواقعي" .. مع جزيل الشكر لصادق النمر الذي دلنا على الكتاب الذي يستحق القراءة لما فيه من بسط واضح ودقيق للأفكار الفلسفية مع نقد تحليلي عميق لها. والكتاب من أربع عشرة مقالة في مجلدين. التعليق الأول: في المقالة السابعة ، المجلد الثاني، ...

المحاورة بالحيلة ، عن الأغاليط المنطقية .

المحاورة بالحيلة ، كُتَيبٌ مُصوَّرٌعن الأغاليط المنطقية ، ترجمته مؤخراً . تجدونه على هذا الرابط :   https://bookofbadarguments.com/ar/ " و تظهر أهمية هذه المغالطات والجهد المبذول من المدرسة الفلسفية الغربية في تسمية هذه المغالطات أنها تختصر على الفرد الراغب في الإطلاع على المنطق بشكل عام أن يخرج وهو محمل بأثمارٍ يستطيع فوراً استخدامها ، ولا نعني بهذا أن الكتب العربية المدونة في المنطق قد تجاهلت هذا ولكنها في مجملها لم تركز على تسمية أغاليط الحجاج بل قللت من قيمة المجادل من حيثُ هو مجادل ومن باب أن المراء مذموم ، فأخرت فصول الجدل والخطابة والشعر في آخر مصنفاتها المنطقية بعد القضايا والأقيسة ، لأنَّ من يتمرس فيما سبق من القضايا والأقيسة فسوف لن يحتاج للتركيز على الجدل والخطابة إذ ستغدو تحصيلَ حاصلٍ وإن كانوا عَدَّوها من الفنون التي يستعملها السفسطائيون . " - من مقدمة الترجمة ..